عادت أبيي وانتهى الدرس

لا معنى للموقف الأمريكي والفرنسي من استرداد القوات المسلحة، حق الشمال السليب في أبيي من أيدي الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية، بعد سنوات من الضياع والتيه، في خضم ما يسمى ببروتكول أبيي والمصفوفة وقرار هيئة التحكيم الدولية، والعبث الذي كان يجري منذ إدراج المناطق الثلاث في مفاوضات السلام في نيفاشا وفق الخطة الخادعة التي تقدم بها السيناتور جون دان فورث مبعوث البيت الأبيض آنذاك، الذي أدخلنا في هذا النفق اللولبي العجيب.
لقد مدت الحكومة حبل الصبر للحركة الشعبية ورضيت بالدنيَّة في نيفاشا وقبلت بما لا يمكن قبوله، وساعدت الحركة على الانتفاش وتصعير الخد، والانتفاخ الأهوج، ودللتها حتى ركبت فوق رؤوسنا، وظنت أنها تستطيع مستقوية بأسيادها في أمريكا وأوروبا أن تركع الشمال وتخضعه وتنتزع منه ما تريد، وعندما بلغ السيل الزبى، ولم يعد الأمر قابلاً للاحتمال، وعقب الهجوم الأخير الخميس الماضي، في الكمين شمال منطقة أبيي، على القوات المسلحة وقوات الأمم المتحدة، ووصول نصل السكين للعظم، كان لا بد من الرد على تجاوزات الحركة الشعبية وتطاولها وقصر نظرها، فتحركت القوات المسلحة حامية التراب والعرض، وجرَّعت الحركة الشعبية وجيشها هزيمة نكراء قاسية، ودخلت متوجة بالنصر المؤزر أبيي ظافرة منتصرة، ولاذ جيش الحركة بالفرار.
فالوضع لا يحتمل الحلول، وهذه رسالة لوفد مجلس الأمن الدولي الذي تجاوز الحقيقة وانحاز بعض مندوبيه في مناصرة مكشوفة للحركة الشعبية التي بادرت بالهجوم واعتدت على القوات المسلحة التي كانت منسحبة من أبيي تاركةً كل المنطقة في يد الجيش الشعبي وشرطة الجنوب التي هي في الأصل قوات جيش الحركة المتخفي في ثياب شرطة الجنوب.
القضية واضحة لا تقبل التأويل ولا التحوير، فكل حبال الصبر التي مددناها، وكل الاصطبار الذي سكنا حوائطه السميكة، كان من أجل السلام وتنفيذ ما يُسمى اتفاقية السلام الشامل، ونزولاً لرغبة المجتمع الدولي والوسطاء الأفارقة، على حساب حق الشمال في أرضه التي لا يمكن لقوة في الأرض أن تنزعها من أصحابها وتسلمها لغيرهم. فلا يهم إذن ما يقوله البيت الأبيض ولا الإليزيه ولا 10 دوانينج ستريت، ولا أية جهة أخرى، فالقوى الكبرى لا تريد أن تقول الحقيقة ولا الاستماع لها، فهي تعلم أن حكومة الجنوب وجيش الحركة الشعبية هما البادئان والبادئ أظلم وأضل.
لقد غيرت الأحداث السريعة في أبيي المعادلة السياسية والميدانية، وقلبت الطاولة بالكامل، فمن أراد الحل عليه الالتزام بمقتضاه واستحقاقه، ومن سعى للسلم عليه التقيد بما يلقي عليه من تبعات، فالحركة الشعبية لم تعد شريكاً في السلام ولا جاراً يمكن الوثوق به، فهي مجرد عصابة من أمراء الحرب ومستغلي قضية الجنوب، ووكيل خارجي للقوى الدولية التي تريد العبث في المنطقة كلها، فالعملاء لا يمكن أن يكونوا أوفياءً لعهد ولا ميثاق ولا اتفاقية، فهم يريدون إشعال النار في كل الحدود، وإعادة الأوضاع إلى دائرة النار بين الشمال والجنوب، بعد أن ظننا أنه بانفصال الجنوب قد تخلصنا من هذا الهم للأبد.
وما حدث الآن، يعني نشوء واقع سياسي جديد في أبيي، لا تستطيع أية جهة داخلية أو خارجية التعامل معه، إلا بترتيبات جديدة والأخذ بالمعطى الذي أفرزته سيطرة القوات المسلحة على المنطقة، واطمئنان المسيرية في أرضهم واسترداد حقهم الذي كادت تضيعه عملية «تدليع» الحركة الشعبية التي استمرت لسنوات شديدة المرارة.
فلا رجعة للوراء، ولا إذعان لأي طرف مهما كان، فأبيي عادت لأصحابها ولن تكون بعد الآن كما كانت، لقد انتهى عهد المساومات والتشاكسات والتجاذبات وانتهى الدرس. ...