حضارة السودان بين الواقع والنسيان

اعداد ومتابعة : د. محمد طه منصور

قبل أشهر قليلة عقدت ورشة عمل في الخرطوم ضمت غالب الآثاريين العاملين في السودان من أجانب وسودانيين.وفي حوار جانبي دار حديث عن هوية السودان بزوغها ومركزاتها.بحماس بالغ تحدث البر وفسر الألماني فليدنق أستاذ الآثار بجامعة برلين قائلا أن كان لنا أن نتحدث عن هوية سودانية فيجب " أن نبدأ حديثنا من الكرو هناك كانت نواة الهوية وهناك شبت هوية السودان عن طوقها ومن الكرو عرف العالم هذا البلد" وكان يعني بالطبع بروز الأسرة الكوشية المعروفة في التاريخ الفرعوني بالأسرة 25 وأسلافهم الذين حوتهم الجبانة الملكية في الكرو.لم يكن اختيارهم للمدفن هناك اعتباطا وإنما لان ذلك المكان الذي ولد وترعرع وعاش ومات فيه أسلافهم ودفنوا فيه.
ولعل انجازات تلك الأسرة بدءا من ألارا إلى كوشتو وبيي (بعانخي) وشبكو وشبتكو وتهارقو وأحفادهم من حكموا وادي النيل الأوسط لأكثر من ألف سنة عام (850 ق.م-350ق.م) يجب ألا ننظر إليها فقط ويجري تقييمها في إطار المقارنة مع جيراننا في الشمال سبقناهم أم سبقونا فقناهم أم فاقونا) ولكن في الحقيقة إن أسرة في الكرو في تلك الفترة وسط ظلام واضمحلال حضاري إقليمي يسود في وادي النيل كله و يحيط به استطاعت أن تنشئ مشيخة ومن ثم تقيم دولة في العمق الأفريقي دون إشعاع خارجي وتذهب بحدود تلك الدولة شمالا إلى سيناء مؤسسة ثاني اكبر قوة في العالم إلى جانب آشور ومساهمة مع غيرها في بزوغ حضارة هلنستية هيأت لأوربا أن تنهض من مرحلة البربرية.
كان عطاؤهم قد تمثل في جانبي الحضارة المادي والمعنوي.المادي منه شمل ما هو منقول من آثار تزخر بها متاحف الغرب في برلين وباريس ولندن وليفربول ونيويورك وواشنطن وبوسطن وتورنتو وغيرها.هل من مصدق ان التابوت الذي دفن فيه الملك اسبلتو أحد أحفاد تهارقو والذي عثر عليه في هرم هذا الملك يتشكل من قطعة واحدة من الجرانيت الصلب تزن 14 طنا" موجود حاليا" في متحف بوسطن كأكبر قطعة متحركة في المتحف... وهناك ماهو غير منقول من نهضة عمرانية هائلة تمثلت في قصور ومعابد ومدافن تقف شاهدة في الكرو والبر كل ونوري والكوة والأقصر والبجراوية والمصورات والنقعة وغيرها, أعمال ظلت في الذاكرة لثلاثمائة عام بعد ذلك ليذكرها هيرودوتس في كتابه "التاريخ". ثم ابتدعوا بضع وعشرين حرفا فقط للكتابة بديلا لآلاف الحروف الهيروغليفية.أما المعنوي منه فقد تمثل في تلك القيم الأخلاقية والأعراف النبيلة التي سطرها على المسلات أو جدران المعابد وعلى الأهرامات , معتقدات لا تكاد تخلو منها مسلة أو تغيب في معبد أو مدفن. ولنأخذ منها مثلا واحدا لأمير يدعى خاليوت احد أبناء بيي (بعانخي) ولد وترعرع في الكرو وكان زاهدا في أمور السياسة فاتجه إلى المعبد في البر كل وأمضى حياته هناك في (الجبل المقدس) وترك مسلة عند مدخل احد المعابد في البر كل يقول فيها: